الحرب ليست قرارًا عاطفيًا يُتخذ فى لحظة انفعال، ولا هى هتاف فى شارع أو تغريدة على منصات التواصل الاجتماعي. الحرب قرار مصيري، يتجاوز أصوات الجماهير وصيحات السوشيال ميديا، ليغوص فى أعماق الحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية. إنها لحظة فاصلة يترتب عليها مصائر الأوطان وأرواح الملايين، ولا مجال فيها لمزاج عابر أو انفعال وقتي.
الجماهير بحكم طبيعتها عاطفية، تتحرك بدوافع الغضب والفخر والكرامة. قد تشتعل من كلمة أو صورة، وقد تدفعها الدماء المسفوكة على الشاشات إلى المطالبة بردٍّ فورى وقاسٍ. لكن القائد، أى قائد، لا يمكنه أن يقود دولته بناء على موجة غضب جماهيرية أو نزعة انفعال شعبية، لأن الأوطان لا تُدار بالهتاف، وإنما بالحكمة والاتزان.
فى الحالة المصرية تحديدًا، برزت هذه الحقيقة بوضوح. مصر عبر تاريخها ليست دولة متهورة أو مندفعة، ولم تكن يومًا ألعوبة فى يد رغبات اللحظة. القيادة المصرية تعلم أن التسرع فى قرارات الحرب قد يجر البلاد إلى كوارث لا تُحتمل، وأن الحكمة فى التريث ليست ضعفًا، بل هى عين القوة. القوة الحقيقية ليست فى إطلاق الرصاص، وإنما فى القدرة على ضبطه حتى تحين اللحظة المناسبة، لحظة تضمن النصر لا المغامرة.
الحكمة المصرية لم تأت من فراغ؛ إنها ثمرة تاريخ طويل من الحروب والتجارب. من نكسة 1967، إلى نصر 1973، إلى معارك الدولة مع الإرهاب فى العقود الأخيرة، أدرك المصريون أن كل قرار له ثمن، وأن الثمن قد يكون دماءً وأجيالًا ومقدرات وطن بأكمله. لهذا، فإن القيادة المصرية اليوم تدرك أن صوت العقل يجب أن يعلو على صوت الانفعال، وأن حسابات الميدان أثقل بكثير من حسابات الشارع.
فى زمن السوشيال ميديا، أصبح الضغط الجماهيرى لحظيًا، يعلو بسرعة البرق وينطفئ بالسرعة نفسها. لكن الدول العريقة لا تحكمها لحظة انفعال، بل رؤية ممتدة، إستراتيجية بعيدة المدي. ولهذا، فإن الحكمة ليست انهزامية كما يروِّج البعض، بل هى القوة التى تُفشل مخططات الأعداء وتُفقدهم عنصر المفاجأة.
الحرب، إذن، ليست بناء على “رغبة الجماهير”. الحرب قرار دولة، ومؤسسات، وحسابات عسكرية واقتصادية وسياسية. من يظن أن التغريدات تصنع معارك، أو أن الهتافات تُطلق الطائرات، لا يعرف معنى الدولة ولا يدرك معنى المسئولية. أما مصر، فتعرف، وتدرك، وتختار الطريق الأصعب: طريق الحكمة التى تحفظ الدماء، وتُبقى على قوة الردع قائمة حتى اللحظة التى تُصبح فيها الكلمة الفصل ليست صرخة عاطفة، بل قرار دولة يعرف متى يُطلق رصاصته الأخيرة.